اللاهوت يُعاش: جملة إسميَّة مبتدأها «اللاهوت» وخبرُها الجملة الفعليَّة «يعاش». هذا ما خبره الآباء القدِّيسون. ها نحن ندخل الصوم الأربعينيَّ المقدَّس المفعم بالصلوات الحارَّة. وليس أجمل من تناوُل سِيَرِ الآباء القدِّيسين، أوَّلًا للاقتداء بهم، وثانيًا للغرف من خبراتهم. فالقدِّيسون والقدِّيسات خير دليل على عيش اللاهوت في الروح القدس بدل الاستماع إليه فقط.

إخترنا في مقالتنا القدِّيس سمعان اللاهوتيَّ الحديث (949-1022م) كمثال في مسيرة التوبة، وتقيم الكنيسة تذكاره في الثاني عشر من شهر آذار. يَعتبر القدِّيس التوبة دعوة مستمرَّة ويوميَّة من الله للإنسان لكونها تعيدنا إلى الشركة معه، وإلى حضنه الدافىء مستعيدين الحالة الفردوسيَّة الأولى: «فكم أنت عظيمة أيَّتها التوبة الَّتي تجعلنا لا نقع في اليأس من أنفسنا».

كما يشدِّد القدِّيس على أنَّ التوبة تعيد لنا حرِّيَّة أبناء الله وتحرِّرنا من خطايانا كما قال الرسول بولس: «حيث روح الربِّ هناك حرِّيَّةٌ» (2 كورنثوس 3: 17). ويُكمل أنَّ الإنسان يخطئ باستمرار، لذا، فحاجته إلى التوبة مستمرَّة، ودموع توبتنا تغسلنا من جديد فهي بمثابة معموديَّة جديدة تجعل نِعَم الله تتدفَّق علينا بوفرة، نتذوَّق من خلالها طعم الملكوت السماويِّ. ويشرح سمعان أنَّ عدم التوبة يجعلنا بلا إحساس، وفاقدين لإنسانيَّتنا، وجاهلين أنَّنا خُلقنا على صورة الله كشبهه. فالتوبة هي علامة قبولنا للربِّ «وأمَّا كلُّ الَّذين قَبِلوه فأعطاهم سلطانًا أن يصيروا أولاد الله» (يوحنَّا 12: 1).

كان القدِّيس سمعان رجل صلاة باستمرار، عشق الجمال الإلهيَّ وزهد بكلِّ شيء بعد أن عاش الحياة الدهريَّة بعض الشيء، وأدرك بالعمق فراغها، وقد ساعدته في ذلك الكتب الآبائيَّة الَّتي آلفها وغرف منها بركات وكنوزًا، مع أنَّ الفساد كان مستشريًا بقوَّة في زمانه، لدرجة أنْ قيل بألّا وجود لشخص قدّيس. وعملًا بالمثل القائل: «مَن جدَّ وَجَدَ»، اجتهد سمعان في مسيرته إلى الله من دون يأس والتقى بناسك في دير ستوديون في القسطنطينيَّة أعطاه كتاب القدِّيس مرقص الناسك ليطالعه، فكانت الجملة الأولى التي وقع نظره عليها: «إذا كنت تبحث عن الشفاء فاعتَنِ بضميرك، واصنع ما يمليه عليك، فتجد المنفعة».

الضمير صوت الربِّ في الإنسان، وقد حَثَّ سمعانَ على أن يتعرَّف أكثر إلى يسوع؛ ففعل.

ازداد قلب سمعان اشتعالًا بمحبّة الربّ ، فأنعم عليه يسوع بمعاينة النور غير المخلوق، فصار لا يعرف ما إذا كان في الجسد أم خارجه، وامتلأ فرحًا لا يوصف وسلامًا ليس من هذه الأرض. وفاض نهر دمع من عينيه، وسبَّح لسانه كالبلبل الشادي مردِّدًا عبارة واحدة من دون توقُّف: «Kyrie Eleison»، أي: «يا ربُّ ارحم». كما شاهد في النور أباه الروحيَّ يعلِّمه الصلاة القلبيَّة.

على الرغم من هذه النعمة الكبيرة، ولأنَّ الإنسان بحاجة دائمًا إلى النموِّ والتنقية والتطهير من الأهواء، عاد القدِّيس واجتاحه التراخي والفتور لحوالي سبع سنوات. لكنَّه عاد إلى الجهاد مجدَّدًا بمعونة أبيه الروحيِّ.

هذا الأمر يعلِّمنا الكثير.

أوَّلًا، عدم التباهي والافتخار والاعتداد بالنفس، فكلُّنا معرَّضون للسقوط في كلِّ لحظة.

ثانيًا، عدم اليأس والاستمرار في الجهاد والرجوع إلى الربِّ.

ثالثًا، مرافقة أبٍ روحيٍّ مستنيرٍ لنا، نسترشد عنده ويسير معنا في جهادنا الروحيّ.

ترهَّب القدّيس في دير القدِّيس ماما آخذًا اسم أبيه الروحيِّ سمعان. طبعًا لا تشمل المقالة سيرة حياته بالكامل، لكنَّ هدفها تسليط الضوء على جوانب من سيرته نستشفُّ منها إفادة ومنفعة. ونتابع، فقد تميَّزَ سمعان بنعمة الصمت المرافقة بالصلاة القلبيَّة وقراءة الكتاب المقدَّس والكتابات الآبائيَّة والصوم.

كان يعتبر نفسه غير مستحقٍّ وبحاجة إلى توبة كبيرة، طالبًا رحمة الربِّ باستمرار لينجِّيه من فخاخ العدوِّ ومكايده. تواضعه السحيق أكسبه قلبًا نقيًّا فَطُبِّقَ عليه ما قاله الربُّ في التطويبة السادسة: «طوبى لأنقياء القلب، لأنَّهم يعاينون الله» (متَّى 5: 8)، فتتالت معه المعاينات الإلهيَّة، كما تميّزت صلاوته أمام أيقونة والدة الإله بحرارة كبيرة.

جهاده الروحيُّ الكبير أوصله إلى رئاسة الدير بعد رقاد الرئيس السابق، فشرع بتشديد الرهبان وتقوية عزيمتهم لاستئصال كلٍّ تراخٍ عندهم. وهناك نقطة مميَّزة عند القدِّيس وهي أنَّه كان يشارك الرهبان بما كان يمنُّ عليه الربُّ من رؤيا وعجائب ونِعَم، وذلك لحثِّهم على المضيِّ في جهادهم.

وبعد فترة من الرئاسة، في عام 1005م استقال ليدخل نسكًا أكثر صرامة. يعلِّمنا سمعان هنا فضيلة التخلِّي وعدم التمسُّك بشيء إلَّا بالربِّ يسوع المسيح والشهادة له. فاضت كتابات القدّيس وأشعاره بالروح القدس وأصبحت كنزًا ثمينًا أعطته صفة اللاهوتيِّ. ووصفه الرهبان بالمتألِّه الَّذي لا يفارقه النور الإلهيُّ.

هذا الأمر جعل الشيطان يشتدُّ غضبًا وغيظًا فحرَّك ضدَّه ضعفاء النفوس محرِّكًا في نفوسهم هوى الحسد. من ضمنهم مطران مساعد للبطريرك، كثير العلم، حاججه في مواضيع لاهوتيَّة فأفحمه القدِّيس. عندها طفق ينصب لسمعان المكائد ونجح في نفيه بعيدًا ووحيدًا في هضبة قاحلة في عزِّ الشتاء بتهمة أنَّه جعل من أبيه الروحيِّ قدِّيسًا. ونتيجة لمحاولات دفاعيّة مطّردة من قبل الرهبان، أعاد البطريرك سمعان من منفاه ومدحه لصلابة إيمانه.

رقد سمعان على أثر مرض مؤلم اعتراه، وشهد أحد الرهبان أنَّه عاينه مرتفعًا عن الأرض، يلفُّه نور يفوق نور الشمس. تنبَّأ القدِّيس بيوم وفاته في 12 آذار وبيوم نقل رفاته بعد ثلاثين سنة.

من أقواله: «اختبرت المحبَّة الإلهيَّة للبشريَّة جمعاء»، و«الَّذين استناروا بالروح القدس وعاينوا النور الإلهيَّ، هم وحدهم مَن يستطيعون التكلُّم بالإلهيَّات».

ونختم بقول له، جميل جدًّا، يلخِّص ما عاشه القدِّيس: «عندما أكون مكتفيًا، أكون جائعًا، وعندما أكون فقيرًا، أكون غنيًّا».

إلى الربِّ نطلب.